في مرصد كلية هارفارد توجد مجموعة فريدة مكونة من نصف مليون لوح فوتوغرافي، يرجع تاريخها إلى منتصف ثمانينات القرن التاسع عشر، ويمكن لكل واحد منها أن يعرض لنا الضوء المنبعث من 50 ألف نجمة. تسهم تلك القِطَع الكونية في تحسين فهْمنا للكون، كما تعكس مدى تفاني وذكاء النساء الرائعات اللائي تخطت قصصهن حدود تاريخ علم الفلك، إذ تكشف عن حياتهن المليئة بالطموح، والتطلعات، والنبوغ. وهذا الأمر يتطلب كاتبًا موهوبًا؛ لمزج الإنجازات المهنية بلمحات من حياتهن الشخصية. فمع انتهائي من قراءة كتاب “الكون الزجاجي” The Glass Universe الرائع والمُتقن للكاتبة دافا سوبل، اغرورقت عيناي بالدموع.
في القرن التاسع عشر، لم يكن للنساء الأمريكيات حق للتصويت (الذي حصلن عليه لاحقًا في عام 1920). كانت الوظائف المتاحة للغالبية العظمى منهن تنحصر في الخدمات المنزلية، أو المَزارع، أو المصانع، أو المدارس، أو المكاتب. ولحسن الحظ، أضاءت ماريا ميتشل الدرب لكثيرين، إذ كانت هي المرأة الأولى في الولايات المتحدة التي تكتشف مُذَنَّبًا. وفي عام 1865، أصبحت أول أستاذة جامعية متخصصة في علم الفلك بكلية فاسار في بوكيبسي في نيويورك، تلك الكلية التي كانت وقتها مؤسسة جديدة للتعليم العالي مخصَّصة للسيدات.
ومع هذا.. كان التغير بطيئًا. فعندما شغل إدوارد بيكرينج منصب رئيس مرصد كلية هارفارد في كمبريدج في ماساتشوستس في عام 1877، كانت وظيفة “الحاسوب” لا زالت وظيفةً للرجال في المقام الأول. كانت تلك الوظيفة – ذات الأجر الضئيل، رغم أهميتها – تشمل رصد درجة سطوع النجم، أو مداه على الألواح الفوتوغرافية، وحساب موقعه في السماء. كان بيكرنج مهتمًّا بالنجوم المتغيرة على وجه التحديد، وهي تلك النجوم التي يزداد سطوع ضوئها ويخفت خلال فترة زمنية محددة. وتطلبت هذه التقلبات التي شُوهِدَت على الألواح عمليات رصد مستمرة، إلا أنه لم يكن يملك ما يكفي للاستعانة بمزيد من العاملين.
بعد بضع سنوات، جاءت الفرصة على يد الثرية أنا بالمر درابر، أرملة عالِم الفلك الهاوي والطبيب هنري درابر، التي خلَّدت ذكراه، عن طريق تمويل حلمه العظيم، المتمثل في تصوير السماء ليلًا، وإنشاء دليل طيفي للنجوم. فعندما يتشتت الضوء القادم من النجوم بفعل منشور أو منظار تحليل طيفي في نهاية جهاز تليسكوب، قد ينتج بقعة رمادية صغيرة، يبلغ طولها بضعة ملِّيمترات على لوح فوتوغرافي. وبتدقيق النظر في الضوء المشتَّت، يتضح أنه يكشف عن خطوط طيفية سوداء رأسية. وتقدِّم تلك الشفرة النجمية الشريطية معلومات عن التركيب الكيميائي للنجم، ولونه، ودرجة حرارته.
وبحلول عام 1883، كان قد أصبح هناك ست سيدات يشغلن هذه الوظيفة، ويَقُمْن بدور الحاسوب في جامعة هارفارد، وهي وظيفة تفردت بها الجامعة آنذاك. وفي غضون خمسة أعوام، ارتفع عددهن إلى 14 سيدة من خلفيات مختلفة. وقد تم تعزيز مجهوداتهن من قِبَل السيدة الخَيِّرة كاثرين وولف بروس، التي تبرعت بمبلغ 50 ألف دولار أمريكي للمرصد في عام 1889، لاقتناعها بأن استخدام التصوير الفوتوغرافي ومنظار التحليل الطيفي سيدفع المجال إلى الأمام.
يركِّز كتاب The Glass Universe على بعض النساء اللاتي عملن بتلك الوظيفة في هارفارد، ومن بينهن المعلِّمة المدرسية الإسكتلندية ويليامينا فليمينج، التي جاءت إلى المرصد في عام 1879، وكانت وقتها حاملًا، وقد تخلَّى عنها زوجها. وَظَّفَها بيكرينج كخادمة ومسؤولة عن شؤون التنظيف، قبل ترقيتها لوظيفة “الحاسوب البشري” في عام 1881. اكتشفت فليمينج ما يزيد على 300 نجمة متغيرة، وفي عام 1899، أصبحت أول أمين على الصور الفوتوغرافية الفلكية في هارفارد. كانت تراجع هي وبيكرينج تصنيف النجوم باستخدام خطوطها الطيفية، وترتيبها أبجديًّا من النجوم الأشد زرقة، الأكثر سخونة، إلى النجوم الحمراء الأكثر برودة.